وكما قلنا: فإن مضمون الخطبة وحدوثها مقبولان، أما هذه الصياغة فيدور حولها شك كبير!!
طارق.. وأسطورة إحراق السفن
لم يرد أي ذكر -ولا أدنى إشارة- حول قصة إحراق السفن لدى ابن القوطية، الذي يعتبر مصدرًا من المصادر الأساسية في فتح الأندلس.
أما صاحب (أخبار مجموعة) الذي يعدّ أيضًا من أوثق المصادر في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس، والمنسوب إلى القرن الرابع الهجري، فهو من هؤلاء الذين لم يوردوا أي ذكر لحادثة إحراق السفن هذه، على الرغم من أن (أخبار مجموعة) من أقدم الكتب -بعد جيل ابن عبد الحكم وابن حبيب- في التأريخ لفتح الأندلس.
إن هذين المصدرين -تاريخ ابن القوطية، وأخبار مجموعة- هما أقدم المصادر الأندلسية التي بين أيدينا، وهما يتميزان على المصادر السابقة -والتي نعرف منها "فتوح مصر والمغرب والأندلس" لابن عبد الحكم، و"مبتدأ خلق الدنيا" لابن حبيب- بأنهما مصدران ينتميان إلى المدرسة الأندلسية، بل هما الاستهلال للكتابة التاريخية الأندلسية، بينما كان ابن عبد الحكم وابن حبيب ينتميان إلى المدرسة المصرية، التي سبقت في كتابة تاريخ الأندلس.
وليس من المعقول -كما يقول الدكتور محمود مكي- أن يخفى هذا الخبر المهم على كل المؤرخين السابقين، فلا يعرفه إلا الإدريسي (أبو عبد الله محمد) الذي توفي سنة (560هـ)، وألف كتابه "نزهة المشتاق" سنة (548هـ)، ومعاصروه أبو مروان عبد الملك بن الكردبوس، الذي لم تُعرف سنة وفاته، على خلاف في أيهما سبق الآخر، وأخذ عنه، وهو خلاف لا طائل وراءه فهما متعاصران، وإن كنا نميل إلى سبق الإدريسي؛ لأنه أكثر تفصيلاً، وعنه أخذ الحميري محمد بن عبد الله صاحب "الروض المعطار" وهو الثالث، الذي تبعهما في ترديد هذه الرواية. كما أن من المرجح أن يكون ابن الكردبوس قد توفي في نهاية القرن السادس الهجري، ويكون ثمة احتمال بسبق الإدريسي عنه في الزمان حتى وإن تعاصرا.
وتعتبر هذه النصوص الثلاثة التي وردت عند الشريف الإدريسي والحميري -الناقل عن الإدريسي- وابن الكردبوس، هي الأصل الذي اعتمدت عليه كل المصادر التاريخية، التي أشارت إلى قصة الإحراق.
ولا أثر للقصة -كما يثبت رصدنا هذا الذي حاولنا أن يصل إلى درجة الحصر- في بقية المصادر الأندلسية الأصلية، سواء تلك التي سبقت هذه المصادر، أو التي عاصرتها في القرن السادس، أو التي لحقتها حتى نهاية القرن الثامن الهجري.
وإلى جانب رفض التاريخ لقصة أو أسطورة إحراق طارق السفن، نضيف أن الشريعة -أيضًا- لا تقبلها، بل تعدها نوعًا من الانتحار غير المباشر. وعلى هذا الأساس فإن لنا أن نتساءل: كيف سكت التابعون على إحراق طارق للسفن؟ وهل يعني هذا مشروعية هذا العمل من الناحية الإسلامية؟ وفي عصر كعصر التابعين ولما ينته القرن الأول الهجري: هل تسمح هذه البيئة الإسلامية بإحراق السفن دون معارضة، ودون احتجاج من الساسة، أو الفقهاء، أو المفكرين، أو الشعراء؟
ومن زاوية أخرى -شرعية أيضًا- هل يجوز في الإسلام مبدأ المغامرات الانتحارية؟ لقد انسحب المسلمون بقيادة خالد بن الوليد من موقعة (مؤتة) بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، حين أدرك خالد ومعظم الجيش أن المعركة انتحارية إزاء هذا الفارق في العدد بين جيش المسلمين وجيش الروم.
وقد كان هناك مسلمون فدائيون يطلبون الاستمرار في القتال، ومع ذلك آثر الجيش الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد، وسماهم الرسول (الكُرَّار)؛ ردًّا على من سخروا منهم في المدينة وسموهم (الفُرَّار).
أليس هذا السلوك النبوي تشريعًا إسلاميًّا يُحَرِّم المغامرات الانتحارية، ويُجيزُ الانسحاب في حالة وجود مفاجآت تجعل المعركة إبادة للمسلمين؟
ومن جانب آخر نتساءل: هل هذه الخسارة المالية التي لا جدوى كبيرة وراءها في عصرٍ يصعب فيه صناعة السفن، والتي يمكن أن توجد طرق بديلة عنها، هل هي جائزة شرعًا؟
إن كل هذه الجوانب، سواء تلك التي تتصل بالتضحية بالبشر (اثني عشر ألف جندي وسبعمائة تقريبًا) أم بالسفن، تجعل من إقدام طارق على هذا الإحراق عملاً مخلاًّ بالشريعة، وهو ما لا يمكن للتابعين -بشكل يشبه التواطؤ- أن يسكتوا عليه، أو على الأقل أن لا يظهر أي خلاف فقهي حوله... لكن هذا السكوت يعني أنه لم تكن هناك قضية من هذا القبيل، ولم يثر بالتالي أي خلاف؛ لأنه لا يمكن إثارة أي خلاف حول قضية لم تحدث فعلاً، وهو ما نميل إليه بالنسبة لتابعي صالحٍ مثل طارق بن زياد، وبالنسبة لمن معه من التابعين .
نهاية موسى بن نصير وطارق بن زياد
عندما بلغت موسى بن نصير أخبار الانتصارات التي حققها طارق، أراد أن يكون له سهم في شرف هذه الفتوحات، فسار من أعماق إفريقيا على رأس جيش عرمرم يتكون من العرب والبربر.
وقد سار موسى في اتجاه آخر غير الذي سار إليه طارق بن زياد، فاحتل مدريد وسرقسطة وغيرهما من المدن، وبعد ذلك سار على رأس قوة صغيرة تتكون من خيرة رجاله وابتعد عن جيشه الرئيسي، ولم يكن هو ورفقاؤه يحملون معهم سوى أسلحتهم. وأما بقية الجيش، فقد كان فرسانه يمتطون جياد جيش القوط المنهزم، ولم يكن الواحد منهم يحمل سوى كيس صغير من الزاد، وأما الأثقال فكانت محمولة على ظهر البغال.
ويزعم بعض المؤرخين -من غير الثقات- أن موسى بن نصير كان ينظر بعين الحسد والغيرة إلى مولاه طارق منذ المراحل الأولى من فتح الأندلس، وقد كان يريد أن يستولي على حصة الأسد من الغنائم التي حصل عليها جيش طارق، بعدما يدفع نصيبًا إلى بيت المال، وأما طارق فقد كان يريد على العكس من ذلك؛ دفع الخمس الذي ينص عليه القرآن إلى بيت المال، وتوزيع ما بقي من الغنائم على الجند. وقد بلغ النزاع بين القائدين درجة رأى معها الخليفة استدعاءهما إلى دمشق ليحسم الخلاف بنفسه[3].
وقبل أن يصل موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، ويتم الفصل في النزاع بينهما مات الوليد بن عبد الملك سنة (96هـ/ 715م).
وقد تعرض موسى بن نصير لبعض المضايقات من الخليفة سليمان بن عبد الملك، لكنه سرعان ما ندم، وأخذه معه إلى الحج. أما طارق بن زياد فقد آثر أن يعيش بعيدًا عن الأضواء، يعبد الله بعيدًا عن مسرح الشهرة وضجيج السياسة.
من إنسانيات طارق بن زياد
لقد ارتضى طارق دائمًا أن يكون الرجل الثاني بعد موسى بن نصير، ولم تظهر منه أي علامة صراع من أجل الدنيا، وكان بربريًّا عربيًّا مسلمًا مثاليًّا.
وقد تجلت إنسانيته في كثير من مواقفه في فتح الأندلس، فقد كان وفيًّا لكل من وقف معه، ولم ينكث عهده أبدًا، وكان له فضل لا ينسى على اليهود؛ فقد كان القوط قد أصدروا أمرًا بتنصير، أو تعميد كل أبناء اليهود الذين يصلون إلى سن السابعة، كما أصدروا أمرًا بمصادرة أملاك اليهود بعد اكتشافهم لمؤامرة يهودية.
ولهذا كان فتح طارق للأندلس إنقاذًا لليهود، كما كان إنقاذًا لجوليان (حاكم سبتة) المغربية، الذي كان على خلاف مع القوط، وكانوا يتربصون به الدوائر، فوجد عند المسلمين الأمن والأمان.
وقد بلغ من رحمته -جزاه الله خيرًا- أنه أعاد للأمراء أملاكهم التي كانت لهم، وهي التي سميت بصفايا الملوك.
كما أنه كان صادقًا في عهود الأمان التي أعطاها لبعض المدن، حتى ولو كان أهل هذه المدن قد حصلوا عليها بنوع من الحيلة، فلم ينكث عهده معهم مع ذلك، اعتمادًا على أن في الحرب من الخدعة ما تقرُّه كل القوانين.
فرحم الله طارق بن زياد (بطل معركة شذونة) التي استمرت أسبوعًا، وبقيت بعدها إسبانيا تحت حكم المسلمين أكثر من ثمانية قرون.